في رحاب تفسير آيات القران المجيد (12)
قال تعالى ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) سورة البقرة الاية 26 .
نتعرض في هذه الاية المباركة الى مطالب عدة
الاول: لا عيب في ضرب الامثال
الامثال عندما ياتي بها الله تعالى فهي من اجل التقريب الى الاذهان ،وذلك لان الانسان يانس بالاشياء المادية والحسية ،ومن هنا لا عيب في ضرب الامثال سواء كانت كبيرة ام صغيرة عظيمة ام حقيرة ، فالله خالق كل شيء في الوجود من المجرات والكواكب والانسان والسموات والارض فهو خالق النحل والذباب والعنكبوت والنمل ،وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يعقلون . ؟
قال الرازي (اعلم أنه بين بالدليل كون القرآن معجزاً أورد هاهنا شُبْهَةً أَوْرَدَهَا الْكُفَّارُ قَدْحًا فِي ذَلِكَ وَأَجَابَ عَنْهَا وَتَقْرِيرُ الشُّبْهَةِ أَنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ النَّحْلِ وَالذُّبَابِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَالنَّمْلِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا يَلِيقُ ذِكْرُهَا بِكَلَامِ الْفُصَحَاءِ فَاشْتِمَالُ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا يَقْدَحُ فِي فَصَاحَتِهِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُعْجِزًا، فَأَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِأَنَّ صِغَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَقْدَحُ فِي الْفَصَاحَةِ إِذَا كَانَ ذِكْرُهَا مُشْتَمِلًا عَلَى حِكَمٍ بَالِغَةٍ )([1]).
الثاني: البعوضة اهون مخلوقة
البعوضة احقر ما خلق الله في الوجود اذ لا قيمة لها ولذلك فقد ورد في الحديث ، لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةَ مَاء ([2]).
ولكن مع ذلك فهذه البعوضة تتمتع باجهزة عملاقة من كثرة العيون والقلوب واجهزة التخدير والسكاكين وتحليل الدم وتمييعه وهي تملك جهازاً لا تملكُه الطائراتُ الحديثةُ، إنه جهازُ (رادار) ، أو مستقبلاتٌ حراريةٌ وغيرها من الاجهزة الدقيقة ([3]).
الثالث : الله يختبر العباد بكل شيء
الله باعتباره خالق يريد من الانسان التسليم والاذعان والانقياد ،وليس من حق الانسان الاعتراض لا على مستوى الظاهر ولا على مستوى الباطن ، وقد اختبر الله بعض الامم في البقرة ، وبعض الامم في الناقة، وبعض الامم في الاشخاص ،فاذا جاء بالامثال فليس للانسان الاعتراض ،بل عليه التسليم بكل شيء من الله تعالى .؟ والغاية حتى يميز الخبيث من الطيب والمسلم من المعاند ،وعلى الانسان ان يعرف ذلك ولا يسقط فيه كما سقط ابليس عندما اظهر الانانية في قبال الله تعالى .؟
الرابع : الضلال والهداية نتيجة المقدمات
المؤمنون الصادقون ينجحون في الاختبار والامتحان الالهي مهما كان الامتحان شكلا ونوعا ، لانهم سحقوا انانيتهم وجاهدوا انفسهم بالجهاد الاكبر ، ولذلك فهم قد سلموا لله بكل شيء ،واما الكافرون والفاسقون فلانهم متكبرون ومغرورون فلا يستطيعون التسليم الى الله لا على مستوى الظاهر ولا على مستوى الباطن وبالتالي فهم يعترضون على كل شيء ياتي من الله تعالى بل يريدون ان تقاد الحياة على مستوى الفهم الذي يعيشونه ،وهذا لا يمكن بل مستحيل لانهم قاصرون عن فهم انفسهم فكيف يستطيعون فهم الكون كله .؟
قال الطبرسي : فالمعنى إن الله تعالى يمتحن بهذه الأمثال عباده فيضل بها قوم كثير و يهتدي بها قوم كثير و مثله قوله >رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنََّاسِ» أي ضلوا عندها و هذا كما يقال للرجل إذا أدخل الفضة النار لينظر فسادها من صلاحها فظهر فسادها أفسدت فضتكو هو لم يفعل فيها الفساد و إنما يراد أن فسادها ظهر عند محنته و قريب من ذلك قولهم فلان أضل ناقته و لا يريدون أنه أراد أن يضل و إنما يريدون ضلت منه لا من غيره و قولهم أفسدت فلانة فلانا و أذهبت عقله و هي ربما لم تعرفه و لكن لما ذهب عقله و فسد من أجلها أضيف الفساد إليها ([4]).
__________________________
([1])تفسير الرازي مفاتيح الغيب او التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين الجزء : 2 صفحة : 361
([2])تفسير القرطبي المؤلف : القرطبي الجزء : 16 صفحة : 88
([3]) موسوعه الاعجاز العلمي في القران والسنه ، النابلسي، محمد راتب ج2 ،ص 228 .
([4]) مجمع البيان في تفسير القرآن ، الشيخ الطبرسي ،ج 1 ،ص 166 .
808 total views, 1 views today