في رحاب تفسير آيات القرآن المجيد (132)
قال تعالى(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )سورة البقرة الاية
نتعرض في هذه الاية المباركة الى مطالب
الاول: الانفاق لرضا الله تعالى
الفرق بين الانسان المؤمن الموقن بالله تعالى وبين الانسان غير الموقن بالله تعالى ان حركة المؤمن الموقن تقع ضمن دائرة الرضا الالهي وهو لا يخرج من هذه الدائرة ،لذلك فهو يرى ان الانفاق حاجة ضرورية لتكامل الحياة ،وعدم الانفاق يقع النقص والفساد في المجتمع وعلى ضوء هذا يكون الدافع للانفاق دافع نفسي تكويني وليس عاطفة عابرة يمكن ان يتحسس بها البعض من الناس اثناء رؤية الفقير والمحتاج، ويمكن التعبير عن ذلك بالشعور بالمسؤولية تجاه الاخرين وازالة الانا من النفس ،لذلك قال تعالى {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ }.
وبعبارة ثانية : ان هذا الانفاق هو لرضا الله تعالى ، وكذلك من اجل تخليص النفس من الشح والنقائص التي تعيقها عن الكمال والقرب الالهي .
قال البيضاوي : (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم) وتثبيتا بعض أنفسهم على الإيمان فإن المال شقيق الروح فمن بذل ماله لوجه الله ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه ثبتها كلها أو تصديقا للإسلام وتحقيقا للجزاء مبتدأ من أصل أنفسهم وفيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال([1])
الثاني : صورة الانفاق في سبيل الله تعالى
ان الصورة التي رسمها القران الكريم للانفاق في رضا الله تعالى صورة رائعة وجميلة فصورة الانفاق في سبيل الله تغاير صورة الرياء والمن والاذى الذي يصدر من هؤلاء فكما ان اؤلئك لا قيمة لانفاقهم ، فان هؤلاء الذين ينفقون في سبيل الله مرضاة الله فان انفاقهم كانه جنة وبستان في مكان مرتفع من الارض خصب التربة لا يؤثر عليه السيل ومهما كان هذا السيل بل ان هذا البستان والجنة تثمر في السنة ضعفين ويكفيها القليل من المطر بل حتى الندى وهو (الطل) لرطوبة ثراها واعتدال جوها وهو قوله تعالى {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَأَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . فالله تعالى ناظر لاعمال الانسان لا تغيب عليه ذرة في الارض ولا في السماء فاخلصوا النية الى الله باعمالكم قال فخر الرازي : ثم قال تعالى : ( فإن لم يصبها وابل فطل ) الطل : مطر صغير القطر ، ثم في المعنى وجوه : الأول : المعنى أن هذه الجنة إن لم يصبها وابل فيصيبها مطر دون الوابل ، إلا أن ثمرتها باقية بحالها على التقديرين لا ينقص بسبب انتقاص المطر وذلك بسبب كرم المنبت . الثاني : معنى الآية إن لم يصبها وابل حتى تضاعف ثمرتها فلا بد وأن يصيبها طل يعطي ثمرا دون ثمر الوابل ، فهي على جميع الأحوال لا تخلو من أن تثمر ، فكذلك من أخرج صدقة لوجه الله تعالى لا يضيع كسبه قليلا كان أو كثيرا([2])
قال النبي ’ : (لا يتصدق أحد بتمرة من الكسب الطيب، الا أخذها الله بيمينه، فيربيها، كما يربي أحدكم فلوه وقلوصه، حتى يكون مثل الجبل، أو أعظم) ([3])
ثالثا : الانسان مخير في الانفاق
بعد ان بين الله تبارك وتعالى صورة الانفاق من اجل الرياء والمن والاذى وهي صورة قبيحة نابعة من النفس الخسيسة والخبيثة والتي لم تهذب نفسها في سبيل الله تعالى ، بين صورة الانفاق في سبيل رضاه تعالى وهذا الانفاق نابع من النفس المطمئنة والتي استطاعت ان تهذب نفسها في لكي تقع تصرفاتها في دائرة الرضا الاله .
من هنا ياتي دور الانسان وهو كما المفروض انسان عاقل عليه ان يختار الصورة الباقية والثابتة والتي فيها ربح الدنيا والاخرة لكي يهذب نفسه ويقهرها من اجل ان يختار رضا الله في تصرفه ولا يهملها فان اهمال النفس فيه خسارة الدنيا والاخرة .؟ والله بصير بما يعمل الانسان فهو لا تخفى عليه خافية في الارض ولا في السماء ويعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور .
وما اجمل قول الشاعر .
يا مَنْ تَصَدَّقَ مالُ الله ِ تَبْذلُهُ *** في أوجُهِ الخير ِما لِلمال ِ نُقصانُ
كَمْ ضاعَفَ اللهُ مالا ً جادَ صاحِبُهُ ***إنَّ السَخاءَ بِحُكْم ِاللهِ رضوانُ
الشحُّ يُفْضي لِسُقم ٍ لا دَواءَ لَهُ ***مالُ البَخيل ِ غَدا إرْثا ً لِمَنْ عانوا
إنَّ التَصَدُّقَ إسعادٌ لِمَنْ حُرِموا ***أهلُ السَّخاءِ إذا ما احْتَجْتهُمْ بانوا
داوي عَليْلَكَ بالمِسْكين ِتُطْعِمُهُ ***البَذلُ يُنْجيكَ مِنْ سُقْم ٍ وَنِيرانُ
يا مُنْفِقا ً خَلَفا ً أُعْطِيتَ مَنْزِلَة ***يا مُمْسِكَا ًتَلَفا ًتَلْقى وَخُسْرانُ
لا تَخْذِلَنَّ لآتٍ رادَ مَسْألَة ً ***جَلَّ الَّذي ساقَهُ كافاكَ إحْسانُ
___________________________________________________
([1]) تفسير البيضاوي (انوار التنزيل واسرار التاويل) : البيضاوي : ج 1 : ص 567 .
([2]) تفسير البيضاوي (انوار التنزيل واسرار التاويل) : البيضاوي : ج 1 : ص 567 .
([3]): عوالي اللئالي المؤلف : ابن أبي جمهور الجزء : 1 صفحة : 367
685 total views, 1 views today