في رحاب تفسير آيات القرآن المجيد (39)
قال تعالى (َولَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا([1]). مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ، وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ) سورة البقرة الاية من 87الى 88.
نتعرض في هاتين الايتين الى مطالب
الاول : هل انزلت الكتب السماوية دفعة واحدة او بالتدرج
المشهور بين العلماء ان الكتب السماوية كالتوراة والانجيل والزبور وصحف ابراهيم نزلت دفعة واحدة من رب العالمين الى الانبياء عليهم السلام ،وقد استدل بعضهم بهذه الايات مثل قوله تعالى (َكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ ) ([2]). وكذلك قوله تعالى (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) ([3]). ويخالف البعض الاخر في ذلك فيدعي نزوله التدريجي، واما القران الكريم فيتفق كذلك العلماء ان نزول القران الكريم كان بشكل تدريجي مدة مكوث النبي صلى الله عليه واله في امته ،حتى يمكن ان يواكب تطور الاحداث الواقعية وما تحتاجه الناس من احكام الهية مستجدة وغيرها من الحكم ([4]).
الثاني : لا تخلو الارض من حجة لله في الارض
لا يمكن ان تخلو الارض في يوم من الايام من حجة لله في الارض اما ظاهرا او مستورا ،ولو خلت الارض لساخت باهلها ، ِلذلك قال الامام امير المؤمنين عليه السلام- اللَّهُمَّ بَلَى لَا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّه بِحُجَّةٍ – إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً – لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّه وبَيِّنَاتُه ([5]).وعَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام تَبْقَى الْأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ قَالَ لَوْ بَقِيَتْ بِغَيْرِ إِمَامٍ لَسَاخَتْ ([6]). وهو مقتضى طبيعة الارض ،لان الله تبارك وتعالى حتى يبقي الارض موجودة فلا يبقيها للناس العصاة والفسقة والفاسدين وانما يبقيها من اجل اوليائه ،فما دام الانسان الكامل موجود في الارض فلا تزول الارض والف عين من اجل عين تكرم ،ولذلك بعد موسى بعث الله الكثير من الانبياء والحجج،منهم يوشع واشمويل وشمعون وداود وسليمان وشيعاء وارمياء وعزير وحزقيل واليسع ويونس وزكريا ويحيى نكما ذكر بعض المفسرين ([7]).
الثالث : عيسى عليه السلام مؤيد بروح القدس
لقد اعطى الله عيسى عليه السلام الكثير من المعجزات منها احياء الموتى وابراء الاكمه والابرص وغيرها من المعجزات بالاضافة الى الانجيل ، وكان عيسى مؤيدا بروح القدس،ويمكن تفسير روح القدس بعدة تفسيرات منها الاسم الاعظم او جبريل عليه السلام ، اوملك اعظم من جبريل عليه السلام ،او الروح الطاهرة القدسية التي يملكها عيسى والتي من خلالها لا يمكن له الخطأ والسهو وهي مع الانبياء والائمة عليهم السلام كما ورد في الحديث عن جابر عن ابي جعفر عليه السلام( فقال سالته عن علم العالم، فقال فقال لي: يا جابر إن في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح: روح القدس وروح الايمان وروح الحياة وروح القوة وروح الشهوة، فبروح القدس يا جابر عرفوا ما تحت العرش إلى ما تحت الثرى، ثم قال: يا جابر إن هذه الأربعة أرواح يصيبها الحدثان إلا روح القدس فإنها لا تلهو ولا تلعب ) ([8]).
قال الشوكاني :(وَرُوحُ الْقُدُسِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ: أَيِ الرُّوحِ الْمُقَدَّسَةِ. َالْقُدُسُ: الطَّهَارَةُ، وَالْمُقَدَّسُ: الْمُطَهَّرُ، وَقِيلَ:هُوَ جِبْرِيلُ أَيَّدَ اللَّهُ بِهِ عِيسَى، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ:
وَجِبْرِيلُ أَمِينُ اللَّهِ فِينَا … وَرُوحُ الْقُدُسِ لَيْسَ بِهِ خَفَاءُ ([9]).
الرابع : الاستكبار على الانبياء طريقة بني اسرائيل
لقد ذم الله اليهود بتمام الذم عندما قال في حقهم (فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) وذلك لان اليهود تعاملوا مع الانبياء عليهم السلام بالاستكبار عليهم وعدم المبالات،وفي حقيقة الامر هذا دليل على تعلقهم وحبهم للدنيا فهم كانوا كذلك ولا زالوا من اجل الدنيا ومصالحهم يفعلون كل شيء، فالانبياء عندما يبعثهم الله لهم تارة يكذبونهم اذا تعارض ذلك مع هواهم ،وتارة يقتلونهم عندما تتوفر الفرصة لهم .
الخامس : اليهود لا يريدون الاستماع الى الدعوة الالهية
اليهود لا يريدون الاستماع الى دعوة النبي صلى الله عليه واله مع ما فيها من البينات والوضوح مع معرفتهم في صدق دعوته ، وغلف جمع أغلف، أي: هي خلقة وجبلة مغشاة بأغطية لا يتوصل إليها ما جاء به محمد ’ولا تفقهه، مستعار من الأغلف الذي لم يختن([10]). واليهود كما قلنا عندما لا ينسجم النبي مع مصالحهم فهم يكذبونه او يقتلونه ،فالمدار عندهم المصلحة وليس القيم والمباديء،وفي الحقيقة ليس اليهود وحدهم يتمتعون بهذه الصفة وهو عدم الاستماع بل طبيعة الناس بشكل عام عدم الاستماع الى الدعاة والمصلحين بل الاستهزاء بهم،وهذه الاية (قلوبنا غلف )نظير قوله تعالى (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) ([11]).
السادس : معنى لعنة الله
لعنة الله بمعنى الطرد من رحمته الواسعة ،فمع ان رحمة الله واسعة جدا ولا يمكن حصرها، ولكن بعض الامم ،وبعض الافراد يستحقون اللعن من الله تعالى ، لانهم يسعون الى المقدمات التي توجب طردهم من رحمة الله تعالى واليهود المصداق الاكمل والابرز لهذا اللعن بسبب تكذيبهم للانبياء وقتلهم للانبياء وكفرهم وجحودهم للنعم الالهية الكثيرة التي تواترت عليهم ،واي امة او اي افراد تتواتر عليهم النعم وهم يعصونه فسوف يطردون من رحمة الله تعالى بل سوف يستحقون اللعن .
قال ابو زهرة : (بل لعنهم الله بكفرهم أي طردهم سبحانه وتعالى من رحمته ، وهو حكم تقريري ، مثبت لغلف قلوبهم ، والإضراب في قوله تعالى : بل لعنهم إضراب عن قبول اعتذارهم ، ورده عليهم بأن هذا طرد لهم من رحمة الهداية إلى كفر الغواية ([12]).
______________________________________________________________
([1]) وقفينا أي أتبعنا والتقفية : الإتباع والإرداف ،أي ارسلنا بعد موسى الكثير .
([2]) سورة الاعراف ، الاية 145 .
([3]) سورة الاعراف ، الاية 154 .
([4]) بحوث في تاريخ القران ، عبدالرضا البهادلي ، ص100 ،110 .
([5]) نهج البلاغة ، خطب الإمام علي ( ع ) ( تحقيق صالح ) ، ص497 .
([6]) علل الشرائع ، الشيخ الصدوق ، ج 1 ، ص 198 .
([7]) تفسير الزمخشري الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل : الزمخشري ،ج1 ،ص 161 .
([8]) بصائر الدرجات ، محمد بن الحسن الصفار ، ج 1 ،ص 467 .
([9]) فتح القدير للشوكاني : الشوكاني ،ج 1 ،ص 129
([10]) تفسير الزمخشري الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (الزمخشري) ، ج 1 ،ص 163 .
([12]) زهرة التفاسير ، محمد أبو زهرة ، ج1 ، ص306 ، دار الفكر العربي .
590 total views, 1 views today