في رحاب تفسير آيات القران المجيد (16)
قال تعالى : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) سورة البقرة الاية ( 34 )
نتعرض في هذه الاية الى مطالب عدة
الاول : كيف يتم التخاطب بين الله وبين الملائكة
يتم التخاطب بين الله وملائكته ، في وجود الارادة والخطاب الالهي وما يريد الله تعالى في عقول الملائكة باعتبارها وجودات قابلة لحضور الارادة والمراد الالهي ، وهو نحو نوع من الايحاء الذي لا يمكن ان يختلف ويتخلف عن المراد الالهي ،واما كلامه مع موسى كليمه فهو بمعنى أنه يخلق صوتا يسمعه من أراد سماعه ممن يخاطبهم ، وليس بمعنى أنّ صفة الكلام صفة قائمة بذاته عز وجل . وهذا ما ذهب اليه العلماء ،يقول امير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة: «يُخْبِر لا بلسان و لَهَوات، ويَسْمَعُ لا بخرُوق وادوات، يقول و لا يَلفِظُ ) ([1])
الثاني : هل السجود كان لادم او كان لله
قد يقال ان السجود هو لله وان كان بحسب الظاهر لادم عليه السلام ،ولكن اقول لا مانع من ان يكون السجود لادم عليه السلام لان ادم هو الانسان الخليفة والذي هو جامع للصفات الكمالية والجلالية ،والسجود هو حالة احترام وتقدير واعتزاز ومحبة وعشق لمن يسجد له ولذلك لا مانع من السجود للاولياء والكاملين ما دام السجود في طول السجود لله تعالى وليس في عرض السجود لله وبمعزل عن الله تعالى ، كما سجد يعقوب الى يوسف عندما دخلوا عليه كما اخبر الله تعالى :> وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) ([2]) وقد ذكر يوسف اباه يعقوب بتلك الرؤيا التي رآها سابقا كما قال تعالى(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ )([3])
قال الزمخشري : ( السجود لله تعالى على سبيل العبادة، ولغيره على وجه التكرمة كما سجدت الملائكة لآدم، وأبو يوسف وإخوته له؟ ويجوز أن تختلف الأحوال والأوقات فيه )([4])
الثالث : ابليس لم يكن من الملائكة
صحيح ان ظاهر الاية المباركة توحي وكأن ابليس كان من الملائكة ،ولكن القران يفسر بعضه بعضا يقول تعالى : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ )([5]) وكذلك هناك قاعدة في اللغة العربية تسمى الاستثناء المنقطع ،وهو ما كان المستثنى فيه من غير جنس المستثنى منه، نحو جاء القوم إلا حمارًا، فإنَّ الحمار ليس من جنس القوم.كذلك هنا عند قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ) ([6])فهو استثناء منقطع ؟.
وقد تقول كيف صار مع الملائكة اذا كان من الجن ،والجواب ان الله جمع الملائكة مع الجن في نفس المقام وخاطبهم باعتبارهم عاقلون واراد ان يختبرهم جميعا ……..؟
عن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام في حديث قالا : قلنا له : فعلى هذا لم يكن إبليس ( لعنه الله ) أيضا ملكا ، فقال : « لا ، بل كان من الجن ، أما تسمعان الله تعالى يقول : ( وإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ ) فأخبر عز وجل أنه كان من الجن ، وهو الذي قال الله تعالى : والْجَانَّ خَلَقْناه مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ ) ([7])
وقال المفسر الالوسي ؛ واختلف الناس فيه، هل هو من الملائكة أم من الجن؟ فذهب إلى الثاني جماعة مستدلين بقوله تعالى : إلا إبليس كان من الجن وبأن الملائكة لا يستكبرون وهو قد استكبر، وبأن الملائكة كما روى مسلم عن عائشة خلقوا من النور، وخلق الجن من مارج من نار،وذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين إلى الأول، مستدلين بظاهر الاستثناء ([8])
الرابع : لماذا لم يسجد ابليس لادم عليه السلام
الانانية، والتكبر، والغرور، هو الذي جعل ابليس لا يمتثل لامر الله تعالى والسجود لادم عليه السلام ،فالشيطان كان يريد ان يمتثل لامر الله بحسب ما يراه هو لا بحسب ما يرى الله ،ولكن طاعة الله تعالى تقتضي ان يطاع الله من حيث هو يريد الله تعالى ؟.
ولذلك بين الشيطان هذا التكبر والانانية على الانسان في موضع اخر من الكتاب العزيز ( قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) ([9]) وقال تعالى (قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ )([10]) .
وهذا حال الكثير من الناس في عدم الامتثال لاوامر الله تعالى ،فالبعض من الناس لا يريد ان يطيع الله من حيث يريد الله او يتنازل عن موقعه او مكانته ويرى نفسه الافضل والاكمل والاحسن،ولم يفكر كيف كان وما سوف ينتهي كما قال علي عليه السلام (مَا لاِبْنِ آدَمَ وَالْفَخْرِ: أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَة ) ([11]) .
الخامس : الخطاب للملائكة كيف شمل ابليس
وقد تقول : انتم قلتم ان ابليس ليس من الملائكة فكيف صار مع الملائكة وشمله الخطاب الالهي .
الجواب : ان الله جمع الملائكة مع الجن في نفس المقام وخاطبهم باعتبارهم عاقلون واراد ان يختبرهم جميعا ؟ وبعبارة اخرى ان الاعم الاغلب والموجه لهم الخطاب كان هم الملائكة وابليس كان واحدا ضمن ما لا حصر له من الملائكة لذلك كان الخطاب يشمل الاعم الاغلب وهم الملائكة ، وعلى هذا فهو وان تشبه بالملائكة وافعالهم وطاعتهم لله تعالى ودخل معهم في الخطاب الالهي ولكن لما ابى ابليس السجود ذكره الله تعالى وكشف امره وميزه من بينهم ومن هنا اخرجه بعد ما اختبره.
____________________________________
([1]) نهج البلاغة ، خطب الإمام علي ( ع ) ج2 ، ض122 ، تحقيق : شرح : الشيخ محمد عبده.
([4]) تفسير الكشاف ، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري ، ج1 ،ص273 .
([6]) سورة البقرة ، الاية 34 .
([7]) البرهان في تفسير القرآن ، السيد هاشم البحراني ، ج3 ، ص642 .
([8]) تفسير الآلوسي ، الآلوسي ، ج1 ، ص229 .
([9]) سورة الاعراف ، الاية 12 .
([10]) سورة الحجر ، الاية 33 .
([11]) نهج البلاغة ، خطب الإمام علي ( ع ) ، ج4 ، ص104 .
701 total views, 1 views today