في رحاب تفسير آيات القرآن المجيد (101)
قال تعالى(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) سورة البقرة من الاية 218 الى 219.
نتعرض في هذه الاية الى مطالب عدة
الاول : التدرج في الاحكام الشرعية
نستوحي من هذه الاية المباركة طريقة الاسلام الخاتم من خلال التدرج في نزول الاحكام الشرعية وهي طريقة عقلائية والشارع المقدس سيد العقلاء ، لان النفس بطبيعتها ترفض العمل بشكل دفعي بكل الاحكام بعدما كانت قد تعودت واعتادت على العمل بخلاف ذلك وهذا ما ورد عن اهل البيت عليهم السلام .
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ما بعث الله نبيا قط إلا وفي علم الله أنه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر، ولم يزل الخمر حراما وإنما ينقلون من خصلة ثم خصلة، ولو حمل ذلك جملة عليهم لقطع بهم دون الدين، قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): ليس أحد أرفق من الله تعالى فمن رفقه تبارك وتعالى أنه ينقلهم من خصلة إلى خصلة ولو حمل عليهم جملة لهلكوا ([1])
وقال القرطبي : قال بعض المفسرين : إن الله تعالى لم يدع شيئا من الكرامة والبر إلا أعطاه هذه الأمة ، ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب عليهم الشرائع دفعة واحدة ، ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة ، فكذلك تحريم الخمر ([2])
الثاني : تقديم المصلحة الاكبر على المفسدة
يمكن لنا ان نستفيد من خلال هذه الاية المباركة قاعدة عقلية وهو ان كل ما كانت مصلحته اكبر واعظم من مفسدته فيجب تقديمه ،ومن هنا نقول وان كان الخمر ([3]) قد ينتفع بها البعض من خلال البيع وحركة السوق والتجارة وكذلك ما ربما يشعر شاربها بالراحة من تعب الحياة ومصائبها حتى يغيب بعض الوقت عن المشاكل ،ولكن اضرار شرب الخمر كثيرة وكبيرة على حياة الانسان في حاضره ومستقبله في دنياه واخرته وكذلك على حياة المجتمع، ولذلك جاءت روايات اهل البيت عليهم السلام فاشارت الى اثار حرمة الخمر وان الخمر شر مطلق .
عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : الشراب مفتاح كل شرّ ، ومدمن الخمر كعابد وثن ، وأن الخمر رأس كل إثم ، وشاربها مكذب بكتاب الله ، لو صدق كتاب الله حرم حرامه.) ([4]) وعن أبي عبدالله عليه السلام : أن زنديقا قال له : لم حرم الله الخمر ، ولا لذة أفضل منها؟ قال : حرمها لانها ام الخبائث ، ورأس كل شرّ ، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبّه ، فلا يعرف ربّه ، ولا يترك معصية إلا ركبها ، ولا يترك حرمة إلا انتهكها ، ولا رحما ماسة إلاّ قطعها ، ولا فاحشة إلا أتاها ، والسكران زمامه بيد الشيطان ، إن أمره أن يسجد للاوثان سجد ، وينقاد حيثما قاده.) ([5])
وعن محمد بن الحسين رفعه ، قال : قيل لامير المؤمنين عليه السلام : إنك تزعم أن شرب الخمر أشد من الزنا والسرقة ، قال : نعم ، إن صاحب الزنا لعله لا يعدوه إلى غيره وإن شارب الخمر إذا شرب الخمر زنا ، وسرق ، وقتل النفس التي حرم الله ، وترك الصلاة.) ([6])
الثالث : حرمة الميسر
(والمَيسِر) ، يَعْنِي: الْقِمَارَ وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنْوَاعُ الْقِمَارِ كلها، قال طاوس وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ: كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ قِمَارٌ فَهُوَ مِنَ الْمَيْسِرِ، حَتَّى لُعب الصِّبْيَانِ بالجَوز وَالْكِعَابِ، ورُوي عَنْ عَلِيٍّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – فِي النَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ أَنَّهُمَا مِنَ الميسر([7]) ، أو عبارة عن اللعب بالقداح ، وهو لعب العرب ، وعلى هذا التفسير يكون الميسر أخص من القمار([8])
عن أبي جعفر عليهالسلام قال لما أنزل الله عز وجل على رسول الله صلىاللهعليهوآله « إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ……… » قيل يا رسول الله ما الميسر فقال كل ما تقومر به حتى الكعاب والجوز ) ([9])
وفي الخبر عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عزوجل: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) قال: نهي عن القمار، وكانت قريش يقامر الرجل بأهله وماله، فنهاهم اللّه عن ذلك»([10])
الرابع : فلسفة حرمة القمار
الاسلام وكل الديانات جاء من اجل تكامل الانسان على مستوى الدنيا وعلى مستوى الاخرة وتمنع الانسان عن كل عقبة وعائق يحول بين الانسان وبين الكمال اللائق به ، وعلى ذلك فالاسلام لما حرم الميسر والقمار لان الميسر والقمار فيها اضرار للانسان الفرد والانسان المجتمع فاما على مستوى الفرد ،فالميسر سوف يدفع بالانسان الى ارتكاب الفاحشة والجريمة والسرقة لان الانسان اذا اعتاد على القمار سوف يخسر امواله وربما يدفعه ذلك الى الجريمة والقتل والفاحشة من اجل تحصيل المال وبالتالي شيوع الفحشاء والمنكر في المجتمع ، وكذلك الاسلام يدفع بالانسان الى العمل والقمار تجعل الانسان لا يفكر في العمل والتطور والبناء بل تجعله كاسلا عن العمل وهكذا الكثير من الاضرار .؟
الخامس : الصدقة والعطاء المستحب
الاية المباركة (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو)لا تتحدث عن الانفاق الواجب بل تتحدث عن الانفاق المستحب وهو ما زاد عند الانسان مما لا حاجة له به فالاسلام يحث على العطاء وتعليم الانسان كرم النفس ومساعدة الفقراء والمجتمع في كل ما يمكن ان يرفع عنه العوز والحاجة .
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ واله وَسَلَّمَ، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ بِمِثْلِ الْبَيْضَةِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: يا رسول الله خذها صدقة فو الله لَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ واله وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ: يَأْتِينِي أَحَدُكُمْ بِمَالِهِ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ، ثُمَّ يَجْلِسُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى خُذْهَا فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا)([11]).
عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله عندي دينار قال صلى الله عليه واله وسلم : ” أنفقه على نفسك ” قال : عندي آخر قال : ” أنفقه على ولدك ” قال : عندي آخر قال : ” أنفقه على أهلك ” قال : عندي آخر قال : ” أنفقه على خادمك ” قال : عندي آخر قال : أنت أعلم ([12]).
السادس : التفكر في ايات الله
الانسان كائن مفكر وهو يختلف عن غيره من المخلوقات التي خلقها الله في هذا الوجود ،ولذا وجب على الانسان ان يفكر ويتأمل في ايات الله تعالى والاوامر والنواهي حتى يمكن له ان يعرف سر الوجود والايات وحتى يخرج من حيز الجهل الى حيز العلم والمعرفة ويعرف النافع من الضار وقد حث الله تعالى على التفكر وكذلك الانبياء والائمة الاطهار عليهم السلام
عن ابان عن الحسن الصيقل قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) من تفكر ساعة خير من قيام ليلة ؟ قال : نعم وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : تفكر ساعة خير من قيام ليلة»([13]) .
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): فكرة ساعة خير من عبادة سنة»([14]) .
وعن الإمام علي (عليه السلام): فكر ساعة قصيرة خير من عبادة طويلة»([15]) .
قال محمد رضا : ( كذلك يبين الله لكم الآيات ) مثل هذا النحو وعلى هذه الطريقة من البيان قد قضت حكمة الله بأن يبين لكم آياته في الأحكام المتعلقة بمصالحكم ومنافعكم ( لعلكم تتفكرون ) فيظهر لكم الضار منها أو الراجح ضرره فتعلموا أنه جدير بالترك فتتركوه على بصيرة واقتناع بأنكم فعلتم ما فيه المصلحة ، كما يظهر لكم النافع فتطلبوه»([16])
([3]) وَالْخَمْرُ: مَأْخُوذَةٌ مِنْ خَمَرَ إِذَا سَتَرَ، وَمِنْهُ: خِمَارُ الْمَرْأَةِ، وَكُلُّ شَيْءٍ غَطَّى شَيْئًا فَقَدْ خَمَرَهُ، وَمِنْهُ «خَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ» وَسُمِّي خَمْرًا: لِأَنَّهُ يَخْمُرُ الْعَقْلَ، أَيْ: يُغَطِّيهِ وَيَسْتُرُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ يُقَالُ لَهُ: الْخَمْرُ بِفَتْحِ الْمِيمِ، لِأَنَّهُ يُغَطِّي مَا تَحْتَهُ وَيَسْتُرُهُ . فتح القدير للشوكاني ، الشوكاني ، ج 1 ، ص252 .
4,061 total views, 4 views today