في رحاب تفسير آيات القرآن المجيد (135)
قال تعالى(وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ،إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) سورة البقرة من الاية 269 الى 272 .
نتعرض في هاتين الايتين الى مطالب عدة
الاول : عدم الانفاق ظلم للانسان والمجتمع
بعد ما تعرضت الاية المباركة الكريمة بعلم الله تعالى في موضوع انفاق الانسان ونذره ،قال تعالى( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ) وهذا يدل ان الانفاق والوفاء بالنذر خروج عن الظلم والدخول في دائرة الفلاح ، وعدم الانفاق وعدم الوفاء بالنذر بقاء الانسان في دائرة الشح والبخل وظلم النفس ،وكذلك عدم الانفاق ظلم للمجتمع لان المفروض ان الانفاق حق للفقراء على الاغنياء في اموالهم كما قال تعالى {وَفِى أَمْوَلِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ}([1]).وعلى هذا فعدم انفاق الانسان القادر على الانفاق واعطاء الحقوق دخوله في زمرة الظالمين وسوف لن يكون له نصير في الدنيا والاخرة .
قال ابن كثير: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ…..) يُخْبِرُ تَعَالَى بِأَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ الْعَامِلُونَ مِنَ الْخَيْرَاتِ مِنَ النَّفَقَاتِ وَالْمَنْذُورَاتِ وتَضَمن ذَلِكَ مُجَازَاتُهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ لِلْعَامِلِينَ لِذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ وَرَجَاءَ مَوْعُودِهِ. وَتَوَعَّدَ مَنْ لَا يَعْمَلُ بِطَاعَتِهِ، بَلْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَكَذَّبَ خَبَرَهُ وَعَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ، فَقَالَ: ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُنْقِذُونَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَنِقْمَتِهِ([2])
الثاني : يجب الوفاء بالنذر
النذر هو ان يجعل الشخص لله على ذمته فعل شيء أو تركه ، ويعتبر في صيغة النذر اشتمالها على لفظ ( لله ) كأن يقول الناذر : ( للهِ عليَّ أن آتي بنافلةَ الليلِ) ان شفى الله مريضي أو ان أعاد مسافري سالماً فللّه عليّ ان اصوم شهرا )( ان وفّقت لزيارة الحسين عليه السلام يوم عرفة ، أو ان وفّق ولدي في الامتحان ، فللّه عليّ كذا ).وكذلك ( ان تعمدت الكذب أو ان تعمدت الضحك في المقابر فللّه عليّ ان اصوم شهرا ) ،ولا يصح النذر فيما لو علقه على فعل حرام أو مكروه ، كأن يقول : ( ان تجاهر الناس بالمعاصي أو شاع بينهم المنكرات فللّه عليّ ان اصوم غدا ) .ويعتبر في الناذر البلوغ والعقل والاختيار والقصد وعدم الحجر عن التصرف في متعلق النذر ([3]).
الثالث: الاعلان بالانفاق والصدقة
قال تعالى ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) اذا كانت الصدقة من الحقوق الشرعية كالخمس والزكاة الواجبة فلا باس بالاعلان بها ولا كراهة فيه وذلك حتى يتشجع الناس على الانفاق والصدقة ، عن زرارة ، عن أبى جعفر عليه السلام قال : سألته عن الرجل يعمل الشئ من الخير فيراه إنسان فيسره ذلك ، قال : لابأس ما من أحد إلا وهو يحب أن يظهر له في الناس الخير ، إذا لم يكن صنع ذلك لذلك([4]).
الرابع : نفقة السر
صدقة السر افضل وذلك حتى يبتعد الانسان عن الرياء وعدم الاخلاص في الانفاق وقد وردت الروايات عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان علي بن الحسين عليهما السلام يقول (صدقة السر تطفي غضب الرب) ([5]).
عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: > وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ” فقال: هي سوى الزكاة إن الزكاة علانية غير سر([6]).
قال الشوكاني : وقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ في صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لا في صَدَقَةِ الفَرْضِ فَلا فَضِيلَةَ لِلْإخْفاءِ فِيها، بَلْ قَدْ قِيلَ: إنَّ الإظْهارَ فِيها أفْضَلُ، وقالَتْ طائِفَةٌ: إنَّ الإخْفاءَ أفْضَلُ في الفَرْضِ والتَّطَوُّعِ.([7]).
وَقَالَ سَهْلُ بْنُ هَارُونَ:
خِلٌّ إِذَا جِئْتَهُ يَوْمًا لِتَسْأَلَهُ … أَعْطَاكَ مَا مَلَكَتْ كَفَّاهُ وَاعْتَذَرَا
يُخْفِي صَنَائِعَهُ وَاللَّهُ يُظْهِرُهَا … إِنَّ الْجَمِيلَ إِذَا أَخْفَيْتَهُ ظَهَرَا([8]).
الخامس :تكفير السيئات من نتائج الانفاق
احد الامور التي تكفر السيئات عن الانسان هو الصدقة لان الصدقة رفع حاجة المحتاج وادخال السرور على المؤمنين الفقراء شيء عظيم عند الله تبارك وتعالى كما قال تعالى ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) ([9]). وكذلك وردت الروايات في ذلك .
عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث: ما عبد الله بشئ أحب إلى الله من إدخال السرور على المؤمن([10]).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن أحب الأعمال إلى الله تعالى إدخال السرور على المؤمنين – الخبر. وفيما أوحى الله عزوجل إلى داود: إن إدخال السرور على المؤمن ولو بتمرة حسنة تباح له به الجنة ) ([11]).
السادس: الله عالم بكل معلوم
يخبر الله تعالى انه عالم بكل معلوم فسواء انتم ظاهرتم بعطائكم ام اخفيتم عطائكم فلا يخفى على الله من خافية ولذلك الافضل لكم ان تخفوا الصدقات . وهذا كله بالنظر الى حال المعطي والمعطى له والزمان والمكان والمجتمع .
قال الرازي : ( واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) وهو إشارة إلى تفضيل صدقة السر على العلانية ، والمعنى أن الله عالم بالسر والعلانية وأنتم إنما تريدون بالصدقة طلب مرضاته ، فقد حصل مقصودكم في السر ، فما معنى الإبداء ! فكأنهم ندبوا بهذا الكلام إلى الإخفاء ليكون أبعد من الرياء ([12]).
______________________________________
([1]) سورة الذاريات: الاية 19 .
([2]) سورة الذاريات: الاية 19 .
([3]) منهاج الصالحين ـ العبادات المؤلف : السيد علي السيستاني الجزء : 3 صفحة : 236
([4]) بحار الأنوار – ط مؤسسةالوفاء المؤلف : العلامة المجلسي الجزء : 72 صفحة : 294
([5]) ثواب الأعمال المؤلف : الشيخ الصدوق الجزء : 1 صفحة : 143
([6]) ثواب الأعمال المؤلف : الشيخ الصدوق الجزء : 1 صفحة : 143
([7]) فتح القدير للشوكاني (الشوكاني) ، الجزء : 1 ، الصفحة : 333
([8]) المحاسن و المساوي المؤلف : البيهقي، إبراهيم الجزء : 1 صفحة : 102
([10]) مستدرك سفينة البحار المؤلف : الشيخ علي النمازي الجزء : 5 صفحة : 18
([11]) مستدرك سفينة البحار المؤلف : الشيخ علي النمازي الجزء : 5 صفحة : 18
([12]) تفسير الرازي ، فخر الدين الرازي ،ج 7 ،ص81 .
664 total views, 1 views today